فضحنا الجدل الذي ثار في مصر حول الحجاب مرتين، مرة لأنه كشف عن أننا لا نجيد ترتيب أولوياتنا وشواغلنا، ومرة ثانية لأنه أثبت أننا أعجز من أن نجري حوراً موضوعياً ومسؤولاً حتى في قضية بذلك القدر من التواضع.
(1)
لا أخفي انني رفضت المشاركة في ذلك الجدل طيلة الأسبوعين الأخيرين. واعتذرت عن الكلام لمن سألني في الموضوع، معتبراً أن لدينا هموماً أخرى داخلية وتحديات خارجية أولى بالاهتمام، وأنه من العبث وعدم المسؤولية أن نصرف الرأي العام عن تلك الهموم، ونشغله بقضية الحجاب. لكني وجدت أنه بمضي الوقت أخذت القضية حجماً مبالغاً فيه، في الداخل والخارج. إذ اصبحت مادة للتعليق في كل الصحف المصرية، وموضعاً للمناقشة في اغلب البرامج الحوارية و"الثقافية" في التليفزيون، ومحلاً للغط داخل لجان مجلس الشعب. بل واصبحت مثاراً للجدل في مختلف الملتقيات والندوات التي عقدت خلال الأسبوعين الماضيين. اخطر من ذلك وأهم أن الموضوع استدعى إلي السطح الحرب الأهلية الثقافية الدائرة في مصر منذ عدة عقود بين المتدينين والعلمانيين. وهي التي تهدأ حيناً ويشتد أوارها في أحيان أخرى، حتى بدا البلد منقسماً بين معسكرين متراشقين، احدهما ضد الحجاب والثاني معه.
وما كان لصخب من هذا القبيل أن يحدث في مصر، دون أن يكون له صداه في الخارج، الأمر الذي نقل المناقشة إلي مختلف وسائل الإعلام العربي، ومعها برامج هيئة الإذاعة البريطانية. وصفحات الرأي في الصحف البريطانية والأمريكية التي أتابعها. حتى أن مجلة "نيوزويك" جعلت من قضية الحجاب موضوعاً لغلاف عددها الأخير (28/11). وفتحت الباب لتصويت قرائها من خلال موقعها على الإنترنت، عما إذا كان يجدر بالحكومات حظر الحجاب أم لا (للعلم: تونس بادرت إلي حظره، وجددت الحملة عليه خلال الشهر الماضي، واصفة الحجاب بأنه زي "طائفي" مستورد!!).
وإذ وجدت أن المسألة كبرت في مصر، حتى تقدمت على عناوين الاصلاح العالقة، وعلى أحداث العراق وفلسطين، فقد دفعني ذلك إلي استعادة الملاحظات التي دونتها على المشهد بعد الذي قرأته وسمعته بخصوصه، متمنياً أن يسهم ذلك في ايضاح ما التبس فيه وما عبر عنه من خلل.
(2)
ملاحظتي الأولى أن مواقف الطرفين اتسمت بحساسية مفرطة. المتدينون انفعلوا بسرعة ولم يحتملوا كلام وزير الثقافة الذي استهجن فيه الحجاب، ولم يقبلوا إيضاحاته التي حاول بها احتواء الموقف وتجاوزه. والعلمانيون تصايحوا في كل صوب، معتبرين احتجاج الأولين مصادرة "لحرية التعبير"، واعداداً لقيام دولة "طالبان" في مصر، ومنهم من غمز في المادة الثانية من الدستور التي تنص على أن الاسلام دين الدولة وأن مبادئ الشريعة هى المصدر الرئيسي للتشريع، موحياً بأن الابقاء على تلك المادة هو الذي يفتح الباب للضغوط التي يمارسها الاسلاميون، في مساندة واضحة للأصوات التي تطالب بالغائها في التعديلات الدستورية المرتقبة في مصر.
ولعلي لا أبالغ اذا قلت بأن اجواء ما بعد 11 سبتمبر ألقت بظلالها على الجدل والتراشق. فالمتدينون اعتبروا كلام الوزير من اصداء الحرب على الاسلام التي شنها البعض في اعقاب ذلك التاريخ. وبعض العلمانيين اعتبروها فرصة لمواصلة تصفية الحساب مع الأولين وأحكام قمع الاسلاميين، حتى ذهب بعضهم إلى اعتبار الدفاع عن الحجاب نوعا من "الارهاب" الذي ينبغي ملاحقته والقضاء عليه.
ملاحظتي الثانية أن استياء المتدينين له ما يبرره، خصوصا أن الاستهجان صدر عن وزير مسئول في الحكومة التي تضم وزيرة محجبة، (بعض الوزراء زوجاتهم محجبات). مع ذلك فقد تمنيت أن يعبّر المتدينون عن غضبهم ازاء كبائر أخرى ترتكب بحق الوطن والأمة، ولا تحدث صداها المفترض في أوساطهم. وهو ما عبر عنه الشيخ محمد الغزالي ذات مرة حين قال إن الاعتداء على شرف البنت تراق لأجله الدماء، أما الاعتداء على شرف الأمه فإنه يقابل بدرجة ملحوظة الذهول واللامبالاة. فالغيرة على الحجاب لم نجد لها مثيلا في الاحتجاج على الفساد أو تزوير الانتخابات أو انتهاك حقوق الانسان في المعتقلات واقسام الشرطة او احتكار السلطة، مع ان تلك أمور بالغة الأهمية وبعضها يتعلق بكرامة المواطن ومصير الوطن ومصالحه العليا. وهو ما يعبر عن خلل في الأولويات وقصور في الاداراك، لايتحمل الناس كامل المسؤولية عنه. لأن الجهود التي تبذل لحصار التدين في حدود العبادات المباشرة والمظاهر والطقوس تتحمل قسطا من تلك المسؤولية. اذ عندما ترسم حدود التدين بحيث لايتجاوز اداء الصلوات في المساجد، والصيام والحج والعمرة، واطلاق اللحى وارتداء الجلاليب وتغطية شعر الرأس أو الوجه، فلا غرابة في أن تستنبت هذه الأجواء أجيالا تثور لشرف البنت ولا تثور لشرف الأمه أو كرامة الوطن.
(3)
الملاحظة الثالثة المدهشة حقا تتمثل في أن الأمر كله نسب إلى ممثلي الأخوان المسلمين في مجلس الشعب، حتى أن انتقاد بعض ممثلي الحزب الوطني لتصريحات الوزير الذي كان شديدا بدوره، أدى إلى تصنيفهم في مربع الأخوان ووصفهم البعض بأنهم اخوان الحزب الحاكم، مستكثرين عليهم أن يقدموا غيرتهم على دينهم على التزامهم بالانضباط الحزبي. بل أنني قرأت لمن قال إن الاخوان هم الذين اخترعوا "الحجاب"، وهم الذين سوقوه، وكان انتشاره دليلا على صعودهم وقدرتهم على "اختراق" المجتمع وفرض ازيائهم على نسائه!
هذا التخويف بفزاعة الأخوان كان أكبر دعاية لهم، اذ حولهم إلى قوة ضخمة غطى نفوذها وتأثيرها كل مجتمعات المسلمين، التي انتشر فيها الحجاب خلال السنوات الاخيرة، من اندونيسيا إلى استراليا. في الوقت ذاته جاء مسكونا بالتغليط والتبسيط الشديدين. آية ذلك أن تغطية النساء لشعورهن هو مظهر شرقي بامتياز. قبل أن يظهر الأخوان إلى الوجود في مصر. وهو ما شهد به الرحالة الانجليزي ادوارد لين، الذي زار مصر في بداية القرن التاسع عشر،وذكر في كتابه "عادات المصريين وتقاليدهم" أن الثياب الفضفاضة أو "الطرحة" التي نسميها الآن حجاباً هو الزي الشائع بين السيدات في مصر، المسلمات منهن والقبطيات بحيث يتعذر التمييز بين هؤلاء وهؤلاء من هذه الزاوية. وما حدث في مصر تكرر في مختلف بلاد المشرق الأخرى.
أكثر من ذلك، فإن الذين تجاهلوا ثقافة المجتمع المستقرة من قرون، وحولوا الأخوان إلى الممثل الشرعي الوحيد للإسلام والمدافع الأوحد عن الحجاب في مصر والعالم الاسلامي، هؤلاء لايعرفون أن مسألة الحجاب لم تكن يوما ما من تقاليد حركة الاخوان ولا من متطلبات الانتساب اليها منذ تأسيسها في عام 1928 وقد رجعت في ذلك إلى الاستاذ فريد عبد الخالق مد الله في عمره، وهو أحد القادة التاريخيين للحركة، فأيد المعلومة، وزاد عليها أنه حتى اطلاق لحى الرجال لم يكن من تقاليد الجماعة، وذكر في هذا الصدد واقعة شهدها بنفسه طلب فيها الاستاذ حسن البنا مؤسس الحركة من اثنين من طلاب كلية الطب آنذاك أن يحلقا لحيتيهما، حتى لاتكون حاجزا بينهما وبين الناس. وكان احد الاثنين هو الدكتور محمد سليمان الذى اصبح استاذا شهيرا للطب الشرعي لاحقا. وفي رأيه أن التركيز على المظاهر والشكليات في التعبير عن الالتزام الديني لم يحدث إلا حينما اغلقت ابواب ممارسة العمل الجاد، وحيل بين الناشطين المتدينين وبين المشاركة في النهوض بالمجتمع من خلال مؤسسات العمل العام.
(4)
الملاحظة الرابعة أن استهجان الحجاب والحط من شأن اللاتي يرتدينه لا يدخل ضمن حرية التعبير، التي بات البعض يحتمي بها في تجريح المعتقدات الدينية، في حين يشتد حذرهم ويراجعون انفسهم الف مره حين يتطرقون إلى الشأن السياسي. ذلك أن الفقه القانوني يفرق بين حرية الاعتقاد والتفكير وبين حرية التعبير. فالأولى مطلقة باعتبارها شأناً داخليا يهم صاحبه ولا يخرج إلى المجتمع. أما حرية التعبير فإن لها وضعا مختلفا. ذلك أنها تتعامل مع الناس ومع النظام العام للمجتمع، لذلك فإن الخطاب القانوني حين يشير اليها فإنه يعتبرها حقا يتمتع به الفرد في "مجتمع منظم" يكفل الحرية للجميع بالتساوي، وليس لفئة دون أخرى. وحين تكون الحرية للجميع ، فإنها في الممارسة ينبغي أن تتوقف حين تشكل اعتداء على حرية الآخرين في ذات المجتمع. ولذلك فإن المحكمة الاتحادية العليا في الولايات المتحدة (وليس في حكومة طالبان) نصت في اكثر من حكم على أن حرية التعبير التي يحميها الدستور يشترط فيها ان ترتب حدا ادنى من العائد الاجتماعي الايجابي. وهذا كلام يعرفه اساتذة القانون الدستوري جيداً، وهو مطبق بحزم في المجتمعات الديمقراطية. فرغم أن كثيرين يعارضون الشذوذ الجنسي في الولايات المتحدة واوروبا، باعتباره سلوكا تتأبى عليه الحيوانات، إلا أن أحداً لايستطيع أن يستهجنه، وأن يتهــم الذين يمارسـونه بما يجرح "كرامتـهم" أو يحط من شأنهم بمثل ما قيل عن المحجبــات عندنا. ذلك أن هــذه المجتمعات حين اضفت الشرعية على امثال هؤلاء، فإن خصوصيتهم اصبحت محصنة ضد العدوان وجديرة بالاحترام.
شىء مثل ذلك حاصل في الهند - مع الفارق بطبيعة الحال - فالذين يعبدون البقر هناك لا يستطيع احد أن يستهجن سلوكهم، في العلن، رغم أن كثيرين لا يقرون ما يفعلونه ويستنكرونه فيما بينهم وبين انفسهم، احتراما لثقافة وتقاليد فئة من الناس لها خصوصيتها. وهذا يحدث في بلد ديمقراطي محترم. يتمتع بهامش واسع للغاية في حرية التعبير، لكنه يعرف حدود وضوابط وممارسة تلك الحرية.
تلك خلفية تدعونا إلى مراجعة كلام الذين حاولوا تسويغ الازدراء، بالحجاب باعتباره نوعا من حرية التعبير. ويحزنني أن استخدم النموذجين اللذين ذكرتهما تواً في القياس، خصوصا في بلد الأزهر الشريف، بما يدفعني إلى التساؤل: الا يحق للمتدينين والمحجبات ضمنا أن يعاملوا بقدر من الاحترام، مماثل لذلك الذي يتمتع به المثليون في الغرب وعبدة البقر في الهند؟.
لدي ملاحظتان اخيرتان أحسب أن الصورة لا تكتمل إلا بالاتفاق عليهما، الأولى أن احترام الخصوصية لا يعني حظر نقد السلوك أو الحوار حوله. والنقد يختلف عن الاستهجان والتجريح والإزدراء. وهو النهج الذي تم به تناول موضوع الحجاب. علما بأن النقد له أهله المختصون، وله ساحاته ومنابره.
الملاحظة الثانية أن الاحترام لابد له أن يكون متبادلا بين الفرقاء المختلفين، فالدعوة إلى احترام خصوصية المتدينين تستصحب دعوة مماثلة إلى احترام خصوصية الآخرين. وما لم تقم العلاقة على اساس من الاحترام المتبادل فإن المعادلة ستختل. ولن تتوقف حروبنا الاهلية البائسة. في هذا الصدد ينبغي أن يتذكر المتدينون خاصة أن حق الكرامة في المرجعية الاسلامية مكفول بالمطلق لكل بني البشر، باختلاف اعراقهم ومللهم ونحلهم ومشــاربهم، وهو ما يقرره النص القرآني: ولقد كرمنا بني آدم - أكرر بني آدم. وارجوكــم أن نقلب هذه الصفحــة بسرعة، لكي ننصرف إلى ما هو انفع واجدى.
هناك 4 تعليقات:
مش ملاحظ حاجه رئيس لجنة التعليم فى الحزب الوطنى حسام بدراوى
تكلم جدياً عن الغاء المجانية فى التعليم العالى
سمعت حد اتكلم وده بقى بيتكلم فى تخصصه مش فى المهلبيه ولا حاجه
والاخوة بتوع المجلس صم بكم عمى لا يفقهون
مفيش حاجه تغفر لفاروق ...يعني مشاكل داخلبه هو بس المفروض الموضوع ماياخذش أكتر من حقه
أشكركم جميعاً إخواني الأعزاء على الزيارة والتعليق هنا .. أخي العزيز شادي ، من قال لك أن التعليم مجانياً من الأساس ؟ لم يعد التعليم مجاني من زمان خالص .. ستسأل ولماذا نحن ندفع الضرائب وكل تلك الأموال في أي شأن تريد قضائه من شبابيك الحكومة سأقول لك أنك تدفع هذه الأموال كضريبة على النفس الملوث الذي تتنفسه فوق أرض مصر ..
أخي أبناء مصر .. معك حق ليس من حقه أن يقل أدبه بهذا الشكل .. لكنه فعلها ليرضي سادته الماسونيين في محافلهم الماسونية التي تغدق الجوائز والمنح لشخبطاته الشاذة على الأوراق ويقولون له فنان ..
أخي العزيز الأستاذ عبدالله المصري .. معك حق في كل ما ذكرت وأوافقك الرأي في أننا لابد لنا من اتخاذ مواقف فاعله ومؤثره وسيكون قريبا بإذن الله .. وأما بخصوص دعوتك الكريمة فعلى الرحب والسعة وفوراً سأذهب إلى العنوان لاذي ذكرته لي وتقبل تحياتي واحترامي
الاخ الكريم ابن بهية
الاستاذ فهمى هويدى من الاشخاص المحترمة لكن موضوع الحجاب وما اثاره السيد فاروق حسنى هو نقطة فى بحور التخبط وعدم التنظيم لحكومتنا الرشيدة التى كان عام 2006 عاما شؤما عليها بكل المقاييس فمنذ بداية هذا العام والكوارث تلاحقها وتلاحقنا وكانه انذار من رب العزة الينا كمصريين مسلمين واقباط وهذا هو الحال فى هذا العام الذى كان عاما استشهد فيه عدد كبير من المصريين فى القطارات والعبارات واقسام الشرطة تم فضح الحكومة مرات عديدة داخليا لقد اصبحت الحكومة لا تستطيع حل مشاكلها وشاخت وكبرت وتاهت خطاها وفى المحفل الخارجى استطاعت مصر ان تفقد خلال العشرة سنوات الاخيرة كل اصدقائها الذين كانوا يحترمون دورها الريادى ارتكانا الى الولايات المتحدة الحليفة وانا لا اقيم الحكومة لانى مجرد مواطن عادى لا املك هذا الحق فى بلد غابت الديمقراطية عنه ويتعرض للحبس والاذلال كل من يحاول ان يدلو بدلوه
سيدى حفاظا على ماء وجهنا حفاظا على حضارتنا العريقة واوهام الماضى الجميل الذى كنا نعيشه ادعو كل الناس ومن منبر مدونتك المحترمة ان تتقى الله وان ترجع الى الوحدة وتتلاقى الصفوف كل على اختلاف المذاهب السنة والشيعة المسلمين والاقباط المعارضة والاخوان اتحدوا يا رموز مصر يا ايها المثقفون المشتتون ويا ايها الساسة المحترمون ويا رجال الاعمال الشرفاء اتحدوا وتعاونوا على البر والتقوى غيروا ما بانفسكم ننظف انفسنا ونلقى وننحى بأختلافاتنا جانبا ونتحد من اجل تغيير واقع اليم نعيشه وعندما نحقق هذا يحق لنا ان نطلب التغيير اعتمادا على قوتنا واتحادنا
الكلام ليس كلام انشائى فانا وهذه وجهة نظر شخصية جدا وكل ما اقوله خطا قد يحتمل الصواب او صواب يحتمل الخطأ
ولك منى يا ابن بهية كل الشكر على سعة الصدر والفكر المثقف الذى تتعامل به مع الاحداث
ولكم منى جميعا التحية والاحترام
اخوكم رئيس تحرير
إرسال تعليق